غزة- حرب إبادة، استهداف الشهود، وتوثيق الجريمة.

المؤلف: طارق حمُود11.08.2025
غزة- حرب إبادة، استهداف الشهود، وتوثيق الجريمة.

العدوان الغاشم على غزة، والذي يعكس بجلاء الطبيعة المتوحشة للكيان الإسرائيلي، يعد حربًا شعواء لا تستهدف الفلسطينيين فحسب، بل تستهدف جملة من القيم الإنسانية والأخلاقية. يمكن وصف هذه الحرب بأنها تستهدف الأطفال تحديدًا، وذلك كنتيجة لعقد نفسية عميقة الجذور ورهاب ديمغرافي مزمن لدى هذا النوع النادر من الاحتلالات عبر التاريخ.

إن علاقة إسرائيل المشبوهة بأرض فلسطين هي علاقة متناقضة، تتأرجح باستمرار بسبب العامل الديمغرافي الذي شكل هاجسًا للاحتلال منذ نشأته. فمنذ تلك المجازر البشعة التي ارتُكبت بحق قرى بأكملها عام 1948، بهدف تنفيذ استراتيجية التهجير القسري، والتخلص من النقيض الجوهري لرواية "أرض بلا شعب".

عقد نفسية متأصلة

لقد استمرت هذه العقدة المَرَضية على مرّ العقود، وتجلت ملامحها البشعة في كل منعطف من منعطفات الاعتداء. ففي غزة بالذات، واجه الاحتلال مشكلة الخصوبة المرتفعة لسكان القطاع خلال فترة احتلاله، وهو الأمر الذي دفع الحاكم العسكري للقطاع خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى إلى إصدار أوامر برفع حظر التجول خلال فترات محددة، وذلك استنادًا إلى تقارير إسرائيلية تحدثت عن ازدياد نسبة الحوامل خلال فترات الحظر والإغلاق. وبعد هذا، يمكن للمرء أن يتصور مدى انحطاط عقلية هذا الصنف المتطرف من المستوطنين.

في هذه الحرب، تجلّت بوضوح "متلازمة المستشفيات"، وكأنها عقدة نفسية أخرى تلازم "إسرائيل". فقد اقتحم جيش الاحتلال هذه الصروح الطبية وكأنه يسعى إلى ثأر تاريخي من هذه المنشآت التي تستحق أن تُسمى "صروحًا" فلسطينية. فبالرغم من الحصار الخانق والتجويع الممنهج وسياسات الاحتلال القمعية التي مورست بهدف تجهيل الفلسطينيين، إلا أن غزة أنجبت نخبة من الأطباء الفلسطينيين المهرة الذين ذاع صيتهم في كل أرجاء أوروبا وأمريكا، بالإضافة إلى صمودهم في القطاع أو عودتهم إليه بعد إتمام دراساتهم أو عملهم في الخارج.

لقد تميّز القطاع الصحي في غزة بالكفاءة العالية لأطبائه قبل جودة خدماته كمستشفيات ومرافق. فالسيرة الذاتية لكل طبيب في غزة تحمل أضعاف ما يمكن أن يتباهى به أكبر طبيب في العالم، من حيث عدد العمليات الطبية والجراحية التي أجراها في مختلف التخصصات. فقد كانت الانتفاضات والحروب المتتالية بمثابة جامعات مهنية ومعاهد تدريب مستمرة في هذا المجال.

لقد مارس جيش الاحتلال عنفًا وهمجيًا فريدًا ضد المستشفيات، وتجلّى سلوكه الإجرامي بشكل خاص ضد الأطباء والطواقم الطبية عند دخول كل مستشفى. ولا يزال العديد من الأطباء البارزين في الأسر بتهمة "طبيب". وضمن هذا الصنف البشري الشاذ من المحتلّ الإسرائيلي المسكون بالغيرة الديمغرافية، يمكن فهم استهداف المستشفيات والأطفال في سياق اجتماعي تاريخي أعمق بكثير مما تعكسه المعطيات العملياتية على الأرض خلال هذه الحرب. وهو سياق يستحق تقييمًا علميًا معمقًا في وقت لاحق، لاستنتاج الأسباب الكامنة وراء هذه العلاقة الثأرية بين الجندي المستوطن من جهة، والطفل والمستشفى من جهة أخرى.

إن سياق استهداف المستشفيات، في جزء منه فقط، يمكن أن يفسر لنا استراتيجية "قتل الشهود" التي تجلت منذ اليوم الأول كأسلوب قتالي ملازم لهذه الحرب. فالمستشفيات هي المراكز النهائية لاستقبال نتائج المعركة البشرية، حيث يتم نقل الجرحى إليها لتلقي العلاج، والشهداء قبل مواراتهم الثرى. وبهذه العملية، تتحول المستشفيات في جانب منها إلى أبرز الشهود على الجريمة، ومركز لتوثيق الضحايا.

إستراتيجية ممنهجة

ويمكن تخيل حجم الخسائر البشرية وعدد الجرحى والشهداء الذين سقطوا من التعداد والتوثيق منذ أن توقفت المستشفيات عن العمل. لقد رأينا الأهالي يحملون جثث ذويهم لدفنها مباشرة، والجرحى الذين لا يجدون مكانًا للعلاج، فيفترشون أرضيات المستشفيات الباردة أو خيام مراكز الإيواء.

لا يمكن الافتراض بأن عملية التوثيق الدقيق للجريمة تجري وفق آليات مريحة خلال هذه الحرب، فوزارة الصحة الفلسطينية في غزة هي المصدر الرسمي للأرقام، والمستشفيات بدورها هي مصدر الوزارة الوحيد. وهنا تسعى بعض المؤسسات الحقوقية جاهدة لتوثيق أوسع للإبادة التي غاب عنها الشهود.

وفي هذا السياق أيضًا، كان لافتًا منع الصحفيين الدوليين من الدخول إلى غزة من أجل تقديم تغطياتهم الإعلامية. وسيتسع المجال لاحقًا لإجراء دراسة خاصة وفريدة من نوعها حول حجم الحصار المفروض على الصحفيين الدوليين.

فمن لم تنجح وسيلته الإعلامية بمنعه بحجة رفض شركات التأمين تغطيته، تم منعه مباشرة تحت ضغط الانحياز السافر لرواية لا ترغب وسائل الإعلام الدولية، وخاصة الغربية منها، برؤية ما يخالفها أو تقديم بديل عنها. ومن تمكن من الوصول رغم كل القيود، منعته السلطات المسيطرة على الحدود من الجانبين، ومن تجاوز الحدود، كانت بانتظاره آلة قتل تتمتع بحصانة قانونية خاصة.

ثم برزت حرب استهداف الأونروا كمنظمة دولية شاهدة، تمتلك القدرة على الوصول إلى كل أرجاء قطاع غزة بحكم وجودها التاريخي وعملياتها المستمرة في دعم اللاجئين، وما يرافق ذلك من توفير للمرافق والبنى اللوجستية.

لقد كانت إستراتيجية إسكات شهادة الأونروا ممنهجة ومشتركة، تشبه تلك التي مورست ضد الإعلاميين الدوليين، حيث تضافرت فيها جهود سلطات القتل الإسرائيلية على الأرض، وساندتها مجموعة دولية كانت منذ البداية على أهبة الاستعداد لدعم كل إجراءات الإبادة وتمريرها دون عقاب. ويأتي وقف التمويل للأونروا من قبل الغرب في سياق "قتل الشهادة" إن لم ينجح "قتل الشاهد". فالإجراءات هي رسالة موجهة للأونروا للالتزام بحدود معينة، ورسم لخطوط حمراء على الوكالة الدولية الالتزام بها، وإلا.

لا يمكن فصل مقتل طاقم المطبخ المركزي العالمي من الجنسيات الدولية في قصف دقيق استهدفهم في دير البلح، عن إستراتيجية قتل الشهود التي رافقت هذه الحرب. ولا يمكن الاعتقاد بأن خطأ ما قد حدث في الاستهداف بحكم القواعد التي ترافق تنقل هؤلاء، وهي قواعد تعريفية متفق عليها من أجل تمييز هوياتهم وأدوارهم. قد يجري الجيش الإسرائيلي تحقيقًا شكليًا، وقد يعتذر عن الخطأ لاحقًا، لكن المهم أن تكون الرسالة قد وصلت إلى كل من يفكر بالمقامرة بحياته من أجل تقديم شهادته على الإبادة القائمة في غزة.

صحوة واهنة

إن سلوك الاحتلال تجاه المتضامنين الأجانب، بمن فيهم الغربيون، والمؤسسات الإنسانية الدولية يتمتع بحصانة خاصة، واستمراره مفهوم في مقابل ردود الفعل الهزيلة التي تصدر عن دول هؤلاء المتضامنين في العادة. والسجل في هذا يطول، وليس أقلها التذكير بدهس الجرافة الإسرائيلية للمتضامنة الأمريكية راشيل كوري خلال الانتفاضة الثانية في رفح عام 2003، وهي جريمة موثقة بالصور، وقد مرت دون محاسبة.

ما الذي يمنع هذا الصنف من المتوحشين من إزهاق أرواح الشهود والأطفال وتدمير المستشفيات واغتيال طواقم الإغاثة الإنسانية واستهداف المؤسسات الأممية وغير ذلك من جرائم الحرب الموصوفة؟ لا شيء بالتأكيد، في ظل الحاضنة الدولية لماكينة القتل الإسرائيلية.

مع ذلك، لم يسبق لهذا الصراع، الذي تجلت فيه سادية "إسرائيل" في كل محطة من محطاته، أن شهد مبالغة في الوحشية والتجرؤ على الشرائح المدنية المحايدة بهذا الشكل الفظيع. فقد حظي هذا الاحتلال بدعم دولي غربي منذ قيامه، وفي هذه الإبادة حظي بشراكة مباشرة من قبل حاضناته الغربية، التي بدأت تستفيق ضمائرها متأخرة جدًا، وبشكل خجول لا يلغي استمرار شراكتها، ولكن بنمط مختلف فقط.

وعلى الرغم من كل هذه المآسي، فإن إستراتيجية طمس الحقائق لن تنجح في التستر على الجريمة. هذه جريمة وثقتها الكاميرات والشهادات الحية من الأفراد، جريمة كشفتها استراتيجيات القاتل نفسه. لذا، يجب ألا تُرمم جدران مستشفى الشفاء بعد هذه الحرب. بل ينبغي توجيه الجهود الوطنية نحو إعادة الإعمار بعد الحرب، تمامًا كما ينبغي الحفاظ على مسارح الجريمة دون إعمار، لتبقى الشواهد ماثلة كمزارات إنسانية تشهد على الإبادة ومقترفيها.

فشهود الجريمة ليسوا بشرًا ومؤسسات فقط، فالأسقف المهدمة والبيوت المحروقة شهود أيضًا، والثقوب في جدران المستشفيات والمدارس شهود. وتصلح أرض غزة بحجرها وترابها لتكون شاهدة في كل شبر منها على مجرمين من طراز خاص، يشبهون القتلة المتسلسلين المدفوعين بساديات مرضيّة وأيديولوجية بغيضة يقف أمامها صاغرًا كل فكر متطرف عرفته البشرية حتى اليوم. والفرق بينهم وبين السفاحين المحترفين، أن هؤلاء يصنعون الشهود بقتلهم.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة